المادة    
قال رحمه الله تعالى: (وأما من اعتقد وجوبها مع إصراره على الترك فقد ذكر عليه المفرعون من الفقهاء فروعاً أحدها هذا، فقيل عند جمهورهم - مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم-: إذا أصر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً أو فاسقاً كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين).
  1. حكم المصر على ترك الصلاة إلى الموت

    وهنا كلام طويل للعلماء، والذي يهمنا أن نعرفه أن الشخص إذا كان لا يعتقد أنها غير واجبة، بل يقول: الصلاة واجبة، ولكنه مصر على ألا يصلي، وإن سألناه أو ناقشناه في وجوبها أقر بذلك، ولكن يقول: لن أصلي. فجيء به إلى القضاء وقيل له تُب وأد ما افترض الله عليك، وإلا فاعلم أن جزاءك هو القتل، فنأتي بك إلى الساحة ليراك الناس ونفصل هذا الرأس عن هذا الجسد إن لم تصل، فقال: لن أصلي أبداً، فجيء به وضربت عنقه وهو على هذه الحالة، فما حكمه؟
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: من قال: إن هذا الأمر فيه خلاف؛ فهذا خطأ لا ينبغي أن يقال، بل هذه فروع فاسدة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم شيء من هذه الفروع وهم أكمل الناس فقهاً وعلماً.
    يقول: فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن، أي يقول في باطنه: إن الله تعالى هو إلهي ومعبودي وربي وخالقي، وإنه قد أمرني بهذه الفرائض، وإنه يجب علي أن أؤديها، ويعتقد ذلك؛ فإنه يستحيل ويمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهل يفعل ذلك مؤمن؟!
    قال رحمه الله تعالى: (هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم)، أي: لا يعرف من عادات بني آدم أن المرء يكون مقراً بشيء محباً له ثم يرغم عليه ولا يفعله، فإذا كان رافضاً له حتى يقتل دون أن يفعله فهذا دليل على كفره به وأنه لا يقبله أبداً، وإلا فكيف يفضل السيف عليه وهو في باطنه يحبه؟! هذا أولاً.
    ثانياً: قال رحمه الله تعالى: (لم يقع هذا قط في الإسلام)، فما وقع في الإسلام أبداً أنه جيء بأحد ليقتل وأصر على أن يترك الصلاة أبداً إلا من كان زنديقاً في الباطن، ولو كان جاهلاً فإنا نعلمه، والجاهل لا يعرض على السيف حتى يعلم.
    قال رحمه الله تعالى: (ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها ويقال له: إن لم تصل قتلناك، وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين)، كما قال رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان: لو جئنا برجل قال: أنا من أهل السنة ، فقلنا له: إذاً ترض عن أبي بكر و عمر فقال: لا أترضى عنهما أبداً، فقلنا: نقتلك أو نضربك أو نعذبك، وظللنا نضربه ونعذبه فأبى أن يترضى عنهما، فهل يصدق أحد أنه في باطنه من أهل السنة ويحب أبا بكر و عمر ، أم نكتشف بهذا العمل أنه رافضي؟! لأن الرافضة من شدة حقدهم وعداوتهم للشيخين الكريمين خصوصاً ولعامة الصحابة الآخرين لا يمكن أن يفعل أحدهم ذلك لشدة حقده، لكن المؤمن من أهل السنة لا يمنعه من ذلك شيء، بل إذا قيل: إن أبيت أن تقول: رضي الله عنهما ضربناك؛ فإنه يقول: أأتحمل الضرب وأترك شيئاً أنا راض به ومقتنع به؟!
    إذاً: القاعدة التي يعرفها الناس جميعاً أن من تحمل الأذى أو الضرب أو القتل في سبيل شيء معين فهو معتقد له، ولولا أن هذا الأمر صار عقيدة عنده لما فضل الضرب أو القتل عليه، فهذا عقيدته تركُ الصلاة، وهذا وقع في الإسلام، أما الذي لم يقع هو أن يؤتى برجل يقر بوجوبها ويقال له: صل وإلا قتلناك ويأبى، فهذا منافق زنديق ملحد، كما حدث لبعض من درسوا في بلاد الغرب أو اعتقدوا العقائد الباطلة الكفرية كالشيوعية، فهؤلاء يصرون على أن لا يصلوا حتى يموتوا، فنعرف أنه قد تغلغلت في نفسه هذه العقيدة الخبيثة حتى أصبح يرى أنه من الواجب عليه أن يموت دون أن يرجع إلى الدين الذي هو دين الفطرة، فهذا لا بد من أن يموت كافراً ويقتل كافراً، ولا يجوز أن نختلف في حكمه فنقول: لعله يكون في الباطن مقراً بالوجوب فيكون مؤمناً.
    وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه، وقد أخذ هذا من حال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع من تركوا شيئاً من الدين، ولذا قال رحمه الله تعالى فيمن هذا شأنه: (استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ) رواه مسلم ، وقوله: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) )، وقد تقدم الكلام مفصلاً في حكم تارك الصلاة وفي معنى الكفر هنا، فلن نعيده، إنما المقصود هنا بيان حكم التائب وكيف يتوب.
    قال رحمه الله تعالى: (وقول عبد الله بن شقيق : [ كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ]، فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط؛ فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب واعتقاد أن تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها).
    فهو -رحمه الله- يناقش القضية مناقشة نفسية، فيقول: إن أي إنسان يقوم في نفسه الدافع التام القوى لعمل معين، وجاء أيضاً ما يحضه عليه، ولم يكن هناك مانع، فلا بد من أن يفعل ذلك، فاعتقاد أن تاركها يستحق القتل وأن هذا من الدين، مع اعتقاد وجوبها هذا داع تام لفعلها، (والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور) أي: يستدعي وجوباً أن يوجد المقدور مع القدرة، فلم لم يفعل؟!
    قال رحمه الله تعالى: (فإذا كان قادراً ولم يفعل قط علم أن الداعي في حقه -يعني الدافع- لم يوجد)، ولو وجد لصلى، (والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحياناً).
  2. بيان وجه اللبس الداخل على القائلين بإسلام المصر على ترك الصلاة

    وقد أسفت كثيراً عندما وجدت شريطاً لداعية له إلمام بعلم الحديث ويدير أحد المراكز الدعوية يقرر فيه أن تارك الصلاة ليس بكافر، وأن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، وتارك العمل ليس بكافر، وفصل هذه القضية -غفر الله لنا وله- وكأنه ينبه الناس إلى حقيقة غائبة عن أذهانهم من العقائد! ومثله الذي كتب كتاب: فتح من العزيز الغفار في بيان أن تارك الصلاة ليس من أهل النار .
    فعجيب أمر هؤلاء، لاسيما الأخ الداعية الذي تعجبت منه كيف غفل عن النقل الصحيح لإجماع الصحابة وإطباق أئمة الإسلام -لاسيما أهل الحديث- على ذلك؟! وعلماؤنا المعاصرون -والحمد لله- كلهم متفقون على أن تارك الصلاة عامداً بعد بلوغ العلم والحجة يكون كافراً، تعجبت في الحقيقة من هذا، لاسيما أنه قال بأن هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة ، وكأنه يقول: من اعتقد غير ذلك فإنه على غير عقيدة أهل السنة والجماعة ؛ وعلى عقيدة الخوارج الذين يكفرون بترك بعض الأعمال.
    فانظر كيف يقرر شيخ الإسلام رحمه الله هذا الأصل وهذه العقيدة الواضحة الجلية! وقد قررها في مواضع أخرى -ولاسيما كتاب الإيمان - بتوسع.
    فنقول: لعل اللبس جاء عند بعضهم لكون بعض الناس يصلي أحياناً ويترك أحياناً، ويؤخر أحياناً، وهذا ما نسأل عنه كثيراً، وقد تتصل بك امرأة وتقول: زوجي أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي، فهل أفارقه؟ فإني سمعت أن بعض العلماء يقولون: إن الرجل إذا كان تاركاً للصلاة فإن زوجته تحرم عليه، والعقد باطل، والأبناء كأنهم أبناء زنا. وما أشبه ذلك.
    وهؤلاء الكتاب ونحوهم قد يقرءون بعض الأدلة؛ كحديث عبادة الذي سنذكره، فيقولون: الذي لا يحافظ على الصلاة لا يزال مسلماً، ونحو هذه الشبهات، فيقع الإنسان في حيرة واضطراب، فيقول: كيف نقول: إن الإجماع قد انعقد على كفره ومع ذلك نسمع من يقول: لا يكفر؟! وإنما جاء اللبس من عدم التفريق بين التارك المطلق وبين الذي لا يحافظ، فالتارك المطلق الذي لا يصلي أبداً هذا كافر لا يجوز أن نتنازع فيه، لكن المتهاون هو الذي يصلي فريضة وأخرى ينام عنها وأخرى يتركها، وهذا في حقيقته ليس بغريب، ولا غرابة في أن نقول: إنه في الفجر كان كافراً بترك الفجر ثم جاء الظهر فصلى فأسلم، فهذه حالة ذكرها الله وكانت واقعة لكثير من الناس في زمن النبوة، وهم المنافقون، وهم درجات: منهم المنافق المحض الذي لم يدخل الإيمان قلبه أبداً، ومنهم الذي نفاقه على ضعف إيمان، فهو -وإن كان يسمى من المنافقين- لم يصل به الحال إلى أن يكفر، لكنه يصل أحياناً إلى الخيط الدقيق الذي يفصل بين الإيمان والكفر، وبين هذا الضعيف الإيمان الذي فيه النفاق العملي وبين ذلك المنافق نفاقاً أكبر، فبينهما - إذا تصورنا- خيط رقيق، فهو يخرج مرة ويعود أخرى، ويكون أحياناً قريباً جداً على حافة الكفر، فمرة يدخل في دائرة الكفر ومرة يعود إلى دائرة الإيمان، فهذا حال واقع عند كثير من الناس، فهذا الذي نقول له: كن مسلماً حقاً وحافظ على صلاتك، وإلا فقد يأتيك الأجل وأنت في الخط الآخر قد خرجت، ولذلك قد يموت كافراً، وليس هناك خاتمة أسوأ من خاتمة الذي يموت على الكفر، لاسيما وقد عرف الإيمان وهو يأتي إليه أحياناً ويعود إليه أحياناً، فلهذا نقول له: ابتعد ما استطعت عن دائرة الكفر بأن تحافظ على الصلاة في أوقاتها في الجماعة.
    فهذا هو الذي قد يسبب نوعاً من الخطأ في فهم القضية.
    يقول شيخ الإسلام : إن بعض الناس قد يعرض له أمور توجب تأخيرها، فتضعف الباعث أو الدافع للصلاة، فيضعف عنها بمانع من الموانع لغفلة أو لشهوة، فهو إما أن يؤخرها وإما أن يترك بعض واجباتها وإما أن يفوتها أحياناً.
    قال رحمه الله تعالى: (فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط ويموت على هذا الإصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة) فيشتبه الحكم ويختلط الأمر (فهؤلاء ليسوا محافظين عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن؛ حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ) ) ففهم بعض الناس أن الذي لا يحافظ عليها هو الذي لا يصلي بالكلية، وهذا فهم خاطئ. قال: (فالمحافظ عليها الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى، والذي يؤخرها أحياناً عن وقتها أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث).
    فهذا الوعيد في حق المفرط المضيع الذي يترك بعض واجباتها أو يؤخرها أو يتكاسل عنها، أما من تركها واستدام ذلك واستقرت عليه نفسه؛ فهذا لا يكون مؤمناً قط، فإذا كان هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث تحمل على هذا، فلا خلاف -والحمد لله- ولا تعارض بين الأدلة في هذا الشأن.
    وقد يعترض البعض ويذكر كلام النووي رحمه الله تعالى وغيره من الشافعية، والكلام في هذا قد تقدم، لكن نقول: إن الخلاف موجود، وإنما نريد أن نبين حقيقة القول الراجح، والقول الراجح في هذه المسألة هو ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأما غيرهم فيقول عنهم شيخ الإسلام رحمه الله -كما قرر ذلك في الإيمان الأوسط بشكل أوضح-: إن هؤلاء الذي يرون أن تارك الصلاة ليس بكافر دخلت عليهم شبهة المرجئة ، فإذا وجد قول القلب التام المطلوب شرعاً فإنه يستلزم عمل الجوارح بقدره، يعني: من كان عمل قلبه قوياً للغاية يقيناً وإخلاصاً وصدقاً وانقياداً؛ فلا بد من أن يصلي صلاة خاشعة منقادة يظهر فيها هذا الإيمان الذي في قلبه، ومن كان إيمانه أقل فإنه تكون صلاته كذلك وبقية أعماله، لكن من لم يؤد الصلاة مطلقاً فعمله دليل على أنه لا إيمان لديه في القلب مطلقاً، فهؤلاء دخلت عليهم شبهة الإرجاء كما قد عرضنا فيما مضى، ونرجو -إن شاء الله تعالى- عندما نتعرض لموضوع الإيمان أن نسهب هنالك في بيان هذه الشبهة وما طرأ بسببها عند المسلمين من خلل في العقيدة، فهذا حكم التائب الذي تاب وقد ترك الصلاة، وهو أننا ننبهه ونذكره ونقول له: عليك أن تصلي، ونقول: لا يجب عليك أن تقضي ما فاتك من الصلاة.